الاثنين 11 أبريل 2016 - 03:30
كان من أوائل الأعمال التي قام بها "الآباء الحجاج" إلى الولايات المتحدة، والذين كان أغلبهم ينتمي إلى الطائفة التطهيرية [Puritans] تأسيس جامعة هارفرد سنة 1636 م. ولئن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهمية المعرفة ببساطة شديدة. وكذلك فعل الغربيون على العموم، واليابانيون في عصر لاحق من تلك القرون، وكثير من الأمم التي تنعم باستقرار، ورخاء اقتصادي، وتوثب فكري، وفضول علمي. وتحول الأمر إلى أن تطور الوعي بكون المعرفة تعني امتلاك السلطة. فدل ذلك أيضا على أهمية المعرفة ومركزيتها. فكلما امتلك فرد أو جماعة أو دولة معرفةً امتلكوا سلطة بقدر تلك المعرفة. والسلْطة فهي إما عسكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو أخلاقية، هي وجه النقد الآخر للمعرفة التي تمثل وجهه الآخر. ولا سلطة بدون معرفة. غير أن القاسم المشترك بين الطرفين هو التوظيف في الزمان والمكان المناسبيْن.وإذا نحن انتقلنا إلى العالم العربي الذي يعد قلب العالم اليوم، ومصدر الاهتمام والتسابق عليه عالميا، فإن المعرفةَ من أهم كبواته، وأزماته التي عرفها منذ ستة قرون على الأقل، بحيث وقفت هاته المنطقة من العالَـم إنتاجَها للمعرفة بصفة تكاد تكون نهائية، مما سبّب لها سكتة حضارية وأزمة ثقافية لا تزال تعاني من مضاعفاتها إلى اليوم. ومن أهم الأسباب هو انحسار المعرفة عن المكان اللائق بها؛ وهو ما أدى تباعا إلى الانحسار من الحضور الفعلي، والتأثير إلى الوجود المادي وحسب، مع الانفعال والتأثر.
ذلك، أن العربَ وسياستَهم أدت إلى التضحية بالمعرفة، والاكتفاء بالبحث عن حلول جاهزة لا تنبع من الذات، ولا تطيق سماعا لفن أو لفكر أو علم يطور الإنسان وإمكانيات عيشه، بما يسمح له أن يكون إنسانا متحضرا، ومثقفا، وواعيا برسالته الإنسانية ومهامّه الاستخلافية، حتى يتشاركَ في المعاني الحضارية العالمية، ويسهمَ في نحت مصطلحاتها، وإنتاجها، فتكونَ له يد بيضاء على القيم السائدة اليوم. فهو للأسف لم يفتأ يستهلك المفاهيمَ والمصطلحاتِ التي يجهزها آخرون، ويقنعونه بكونها هي الحقيقة، وبكونها المنتَج الذي عليه اقتناؤه، ونمثل على ذلك فقط بمصطلحات من قبيل "التنمية البشرية"، و"الحكامة"، و"التخصيص" (في مصطلح أهل المغرب الخوصصة/ وهلُـمّ جرا)
وفي هذا السياق، يستحسن أن نقود مثالين من التاريخ لشخصين أُمّيّيْـن أثرا كثيرا في مصير شعبيهما. ونقصد النبيَّ محمداً عليه السلام (570-632 م)، والأمبراطور "قارْلـة" بتعبير العرب، والمعروف "بـشارلمان العظيم" [Carolus Magnus] (742-814 م). فالأول فادى الأسرى مقابل أن يعلم أسير الحرب عشرةً من شعبه، وعيا منه أن المعرفة نور يطوي ظلماتِ الجهالة طيا، ويخرج الشعب من الحرمان والاتكال، وأن يعيش عالة على غيره. وأما الثاني، فقد عمل على نشر المدارس، واقتناء نفائس الكتب من كل الأصقاع التي توفرت لديه. بل إنه هو نفسه حاول أن يتعلم، ليخرج من أميته، وهو إمبراطور مملكة مترامية الأطراف آنذاك. فقد حمل الاثنان على عاتقهما عبءَ تنوير الشعب وتطوير ملكاتِه، بنشر المعارف والحث عليها.
نحن اليوم نقف على كثير من البلدان الفاشلة التي يقودها من بلغ حد الدكتوراه، والدراسة في الغرب، ولم يستطع المتعلمون أن يعلموا شعوبَهم في الوقت الذي نجح فيه قادة أميون في مثل هاته المهمة نجاحا باهرا، وحققوا نتائج ربما أكبر من توقعاتهم هم أنفسهم. ونتساءل من قبيل بعض التندُّر، أو الدعابة إن كان هذا الأمر صحيحا، هل علينا أن نسأل الساسة والقادة لم فشلوا في تعليم شعوبهم؟ لم تركوا غابات الأسمنت تزحف إلى جانب التصحر الطبيعي والثقافي على المدن في الوقت الذي خرج هؤلاء من قوقعة البلد، ودرسوا في الخارج، وشاهدوا بأعينهم كيف تتقوى البنيات التحتية للمعرفة من مكتبات ومسارح، ومتاحف ودور للأرشيف، ومعارض العلوم الطبيعية والأرضية والفلكية، والحدائق المنسقة؟ كيف يفشلون في ظل إمكانيات بشرية مالية ضخمة تتوفر عليها بلادهم؟ إنها أسئلة نطرحها لهدف أساس وهو النقد الذاتي لبنيتنا المعرفية وإعادة هيبتنا وكرامتنا أمام الأمم، وقبل ذلك أمام أنفسنا. فالحاكم والمسؤول المحلي ليس عدوا لهذا المواطن المُجَهَّــل عمدا، ولا المواطن عدو لهما. إنما الأمر واجب النظر، حتى نتبين السياسات والاتجاهات والوجهات التي علينا اليوم أن نسلكها؛ فننطلق انطلاقة جديدة.
إن تقدم مباني الاسمنت مظهر خادع للتقدم، والتحضر، فكلما أهمِـل الإنسانُ لصالح المبنى الإسمنتي إلا وكان هذا الإنسانُ مجردَ معول هدم في صروحٍ بناها بماله وتعبه وضرائبه. لذا، فالأمن العام، وحمايةُ الممتلكاتِ العامةِ والمباني أساسهما الأمن المعرفي. فجهالة الكثيرين تجعلهم يظنون - وهم يخرجون إلى الشارع ليخربوا الملك العام - أنه ملك للدولة، أو للسلطة الحاكمة، ولا يخطر ببال أحدهم وهو يهم بالمعول لهدم المبنى أنه يخرب بيته بنفسه، وأن ذاك المِلْك أو المؤسسة ليست رمز القمع بقدر ما هي رمز لما يملكه، فيقوم بإتلافه. فلو كان السياسي يقوم بدوره في توفير الأمن المعرفي مثلما يحرص على توفير الأمن في الشارع، وبسط هيمنة الدولة ورموزها لما ظن هذا الرعي المحتقن والحاقد على الظلم والقمع أن المِلْك هو لغيره، وليس مِلكَه هـو.
لذا، ونحن نتحدث عن الأمن بأنواعه، كثيرا ما يتناسى السياسي، ورجل السلطة نوعا هاما من الأمن، وهو أقواها وأكثرَها صلابة إن توفر. فالأمن المعرفيّ يتحقق بوسائل كثيرة جدا، ومتاحة للمسؤول السياسي، إلا مَـن أبى.
ومن تلك الوسائل التي سنتحدث عنها توفير البنية التحتية التي تضمن للمعرفة هيبتها، وقوتها حتى تنشأَ الأجيال الصاعدة على حبها، واحترامها. فالبنية التحتية التي نطالب مسؤولينا بتوفيرها - إذن - وهم قادرون على ذلك هي توفير المكتبات العامة بشكل محترم يضمن للمعرفة قوتَها وتحيينَ موادها، وهيبتَها. وسنتحدث في مقالات أخرى وتحقيقات عن ذلك تشجيعا منا للمسؤولين على ارتياد هذا المجال الغائب، والمهمشَ في كثير من مخططات التهيئة والتنمية المحلية والجهوية، وحتى الوطنية؛ ومنبهين لهم أن توفير البنية التحتية اللازمة بمواصفات عالمية، وأشكال هندسية رفيعة، وجمالية قوية مبْهِـرة سيُسهِم لا محالة في تكثيف الاقتصاد وتقويته، كما وسيوفر المعلومةَ للباحث عنها بأيسر السبل وفي سقف زمني معقول، وتوفير للوقت والجهد في ظل تنافسية قوية على صعيد العالم.
إن توفيرَ المعرفة وبنياتِها التحتية القويةِ واللازمة سيجعل شروطَ الأمن تتحسن، وسيخفف عن رجال الأمن الذين يقومون بجهود خرافية لحفظ أمن البلاد، لكنهم لا يمكن أن يُلاموا في ظل غياب سندٍ قـوي وهو الأمن المعرفي. فبدون توفير المكتبات، ونشر المعرفة، ووقف التسطيح الثقافي في الإعلام، لا يمكن أن نحقق الأمن الكامل.
ومن هذا التحقيق الذي أجريناه مع مراسل موقع هسبريس مشكورا، بمونريال الكندية، نبتغي أن نقرب الصورة إلى مسؤولينا المحليين خاصة، لتنبيههم إلى بناء المكتبات العامة بالمواصفات الدولية، التي نطالب بها، وسنقوم بشرحها في مناسبات قادمة، سيساهم ذلك في نقل المنطقة التي يديرونها بأسرع مما يخططون. فالمعرفة تنقل الإنسانَ أكثر من المخططات الحكومية التي تتغير بتغير الحكومات. ففي هذا التحقيق، أجرينا جولة بمكتبة بوازي بمونريال.
ونختم في هذا السياق، بفكرة إنشاء "مركز الرئيس بومبيدو" بباريس، ومفادها أن الرئيس جورج بومبيدو [Georges Pompidou] (1911-1974) آنذاك، رغب في أن ينقل الشعبَ الفرنسي من عقلية زراعية رجعية إلى عقلية صناعية حداثية، فشق عليه أن يلجأ إلى المخططات الحكومية التي قال إنها تتغير بتغير الحكومات، لكن، إن هو قرّب المعرفة من الناس أكثر وبشفافية، سيكون الأمر مهما للغاية، وسيحقق الهدف المرجو، وكذلك كان. ومن يشاهد اليوم مركز "بومبيدو"، سيتضح له أن الثقافة تدر خمسة ملايين زائر سنويا فقط لهذا المركز. فتخيل لو أننا أقمنا في بلادنا صرحا ثقافيا يتطلع إلى الخمسين سنة المقبلة كم سيدر من أموال، وكم سيزيد من معارف لفائدة الإنسانية، وليس فقط لساكنة المنطقة. وفي هذا الصدد، ندعو إلى أن يعتمدَ المسؤولون المحليون والجهويون والحكوميون لكل عاصمة جهوية مكتبةً من حجم وطني وبمواصفات دولية ومحيَّنة المعارف والوثائق وبمعايير سياحية مبهرة لا يماثلها صرح في مكان آخر من العالم. ونقترح تخصيص نسبة 1 % من مداخيل المدن والجهات لتمتين البنى التحتية للمكتبات والصروح الثقافية باعتبارها استثمارات في الثقافة، واقتصاد الثروة المادية وغير المادية، فضلا عن تقوية دور الأرشيف الوطني والجهوي.
لقد أطلقنا حملة لهذا العرض، وهي مبادرة مدنيّة، نضم فيها جهودَنا إلى جهود كل المخلصين من أبناء بلدنا لتشجيع المسؤولين السياسيين، وذوي القرار في البلد على ارتياد هذا النوع من المشاريع البناءة والاستراتيجية، التي ستساهم بقدر عظيم في تنوير الساكنة، وستعين على تجفيف منابع التطرف، والتجييش الغوغائي باعتماد المعرفة صديقةً للبلد وساكنته، كما ستسهم بقدر كبير في إصلاح التعليم والتكوين بتوفير البنية اللازمة للمعرفة، وهي المادة الأولية (الكتاب، والوثيقة بأنواعها، ...). هي إذن حملة أطلقتها شخصيا منذ السادس من مارس الماضي على صفحتي الاجتماعية، لكي أثير الانتباه إلى نوع آخر من أنواع الأمن، وهو الأمن المعرفي. فإنسان قلق جاهل هو عدو نفسه، ونظامه، ومحيطِه الإقليمي والدولي. ولمسؤولينا واسع النظر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق